التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
التاريخ الإسلامي هو أعظم تاريخ عرفته البشرية، فهو تاريخ أمة شاهدة، وأمة خاتمة، وأمة صالحة، وأمة تقية نقية، أمة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر.
بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة من الهجرة انتهى الوحي الإلهي، وفقد المسلمون مرشدهم وزعيمهم وإمامهم، وكادت أواصر وحدتهم تتفكك بظهور المرتدين لولا أن خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتصدى لهم في حروب الردة لإعلاء كلمة الحق والدين، وهدم قلاع الكفر والطغيان وتحرير الأبرياء في مشارق الأرض ومغاربها من صنوف القهر والاسترقاق والديكتاتورية.
ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليظهر أنواعًا لا حصر لها من الإبداع السياسي والخلقي والروحي مما يجعله واحدًا من أعظم الحكام في تاريخ البشر، فقد تزايدت الانتصارات على عهده شرقًا وغربًا، مما كان سببًا في ظهور عداوة ممن يحقدون على سطوع نجم المسلمين، تلك العداوة التي تجسدت في اغتيال أبو لؤلؤة المجوسي للفاروق عمر، لتتصدع بذلك قلوب المسلمين وتتوقف الفتوحات، ولكن بعد مبايعة المسلمين لعثمان بن عفان رضي الله عنه، قادهم عثمان من جديد نحو نشر دين الله الحنيف، ولكن بدأ الغيورون يصنعون فتنهم من جديد، وتمكن عبد الله بن سبأ من التفريق بين الصفوف في محنة شديدة راح ضحيتها الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم محنة أخرى راح ضحيتها الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن سرعان ما سطع نجم بني أمية القوي فأسسوا دولة إسلامية فتية بلغت حدودها قبل نهاية القرن الأول الهجري، الهند شرقًا، والأندلس غربًا، وبحر قزوين شمالًا، واليمن والسودان جنوبًا، وهي مساحة من الأرض تعادل نصف مساحة العالم المعروف في ذلك الوقت.
ولكن مهما بلغت الدول من قوة فإنها لا تصمد أبدأ أمام تقلبات الدهر وفعل الزمن، تلك سُنّة الله في خلقه، فقد بدأت عوامل الضعف تسري في أوصال الدولة الأموية بسبب كثرة الفتن والتمردات التي قام بها الشيعة والعلويون، حتى تمكن أبناء البيت العباسي في فارس تحت قيادة أبي مسلم الخراساني من جمع صفوفهم والزحف على الدولة الاموية في الشام ليطيحوا بها في معركة الزاب، منهيين بذلك حكم الأمويين الذين لم يتبقَ لهم سوى الأندلس، حيث قامت هناك دولة مستقلة قوية بواسطة رجل من أمراء البيت الأموي يُدعى عبد الرحمن الداخل الذي تمكن بأعجوبة من تحويل الأندلس إلى أكثر بلدان أوروبا ازهارًا ورُقيًا.
ولقد أخذت الدولة العباسية في ترسيخ قواعد الإسلام في كل الأراضي التي كان الأموين قد وصلوا إليها، معتمدة في ذلك على مبدأ الارتباط الروحي بين المسلمين تحت راية الخلافة ومنح حق تقرير المصير السياسي للولايات التابعة لها.
ولقد كانت تلك الوسيلة في صالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها حيث ساعدت بشكل واضح في تجديد رائع للقوى السياسية وللفكر السياسي وعكست قدرًا مساويًا من الحيوية والنشاط والمقدرة على استبدال الضعيف بالقوي، والشيخوخة بالشباب فدامت الخلافة ودام الازدهار وتكاثرت الثروة والمعارف وتراكمت حتى غدا من المستحيل على مدى خمسمائة عام تقريبًا أن تتعرض بلاد المسلمين للخطر الخارجي... وإن ظهر أي عدو فقد كانت الهزيمة مصيره والهلاك أو الأسر حليفه.
ومع ذلك فسبحان من اتصف وحده بالكمال والدوام.. فالدولة العباسية وإن اتسعت وتمددت لم تقوَ على استمرار فرض نفوذها على الأنحاء فاستقلت عنها مصر بعد نجاح الفاطميين في بسط نفوذهم الشيعي على مجمل شمال إفريقيا ثم الشام والحجاز واليمن والسودان، وبالرغم من التباين الواضح بين الدولة العباسية السنية والدولة الفاطمية الشيعية، إلا أن كلًا منهما لم تتمكن من القضاء على الأخرى بل لم يسجل التاريخ أن معارك كبرى قد دارت بينهما.
وبمرور الوقت استتب الأمر الواقع، ودخلت كلا الدولتين في مرحلة الكمون ثم الضعف، فاستغل بابا الفاتيكان أوربان الثاني الفرصة وذهب إلى فرنسا حيث ألقى خطابًا حماسيًا في مدينة كليرمونت أمر فيه نصارى أوروبا الكاثوليك بأن يتأهبوا للزحف على العالم الإسلامي لتبدأ الحروب الصليبية التي سرعان ما نجحت في اختراق دولة سلاجقة آسيا الوسطى (الجناح العسكري للدولة العباسية) ثم هزيمة الفاطميين في الشام، وتأسيس أربع إمارات لهم حولوها إلى كيانات صليبية قوية هي إمارة الرها، وانطاكيا، وبيت المقدس، وطرابلس، وبهذا ضاعت القدس (بعد أن ذُبح من أهلها سبعون ألف مسلم) لأول مرة منذ أن فتحها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسرعان ما غدت مدن إسلامية عربية عريقة مثل دمشق وبغداد والقاهرة مهددة في أي وقت من العدو الشرس القريب المتربص بها.
وكان لابد لكي يثبت المسلمون أنهم أصحاب حضارة راسخة أن يقوموا بحركة إصلاح لتجديد كياناتهم، وإحياء قوتهم وتنظيم صفوفهم، ولقد قاد تلك الجهود السلطان عماد الدين زنكي مؤسس الدولة الزنكية، والذي تمكن بعد جهود مضنية من أن يحرر إمارة الرها (في شمال الشام والعراق) من الوجود الصليبي، ثم تبعه ابنه نور الدين محمود الذي أرسل القائد أسد الدين شيركوه وابن شقيقه صلاح الدين الأيوبي إلى مصر لحمايتها من التهديد الصليبي الذي كان قد احتل مدينة دمياط الهامة بعد هزيمة الفاطميين فيها، ثم تمكن شيركوه وصلاح الدين من دخول مصر وتأمينها إلى أن مات الخليفة الفاطمي الأخير، العاضد بالله، وبهذا طوى التاريخ صفحة الدولة الفاطمية الشيعية، وتحولت مصر مرة أخرى للمذهب السني ليسيطر عليها صلاح الدين وليضم لها الشام واليمن والحجاز في دولة عسكرية قوية هي الدولة الأيوبية، تلك الدولة الفتية التي اخذت على عاتقها تحرير القدس من الاحتلال الصليبي وهزيمة الجيوش الصليبية في حطين والرملة.
وبينما كان الأيوبيون في مصر والشام يحققون أبهر الانتصارات، كان حكام الأندلس المسلمين يقاتلون بعضهم بعضًان فضغط عليهم الإسبان واستولوا منهم على مدن إسلامية عريقة مثل سرقسطة ولشبونة مما دفع بقادة دولة الموحدين بشمال إفريقيا إلى العبور إلى للأندلس لحمايتها من الزوال وتقابلوا مع الإسبان في معركة ضارية سميت بموقعة الأرك، وإلحاق الهزيمة بهم، وبالرغم من ذلك تمكن الإسبان من الاستعانة بالجيوش الأوروبية التي كانت قد ذاقت مر الهزيمة من الدولة الأيوبية في الشرق، من استعادة زمام المبادرة وهجموا على الموحدين فهزموهم في موقعة العقاب فسقطت بعد ذلك مدن أندلسية عريقة أخرى كان أهمها قرطبة ثم بلنسية ثم إشبيلية.
ولقد استمرت دولة بني أيوب في حماية الشرق الإسلامي من خطر الصليبيين حتى زالت تلك الدولة، وقام في أعقابها دولة المماليك الأولى التي صاحب قيامها أحداثًا جسامًا شهدتها مصر إبان حملة لويس التاسع، ومع ذلك وبينما كانت مصر تشهد قيام دولة قوية جديدة على أرضها، كانت الدولة الخوارزمية (التي تأسست في بلاد ما وراء النهر خلفًا للدولة السلجوقية هناك) تلقى حتفها المروع على يد جحافل المغول بقيادة جنكيزخان التي ذبح مئات الآلاف من سكانها الأبرياء، وليقوم بعدها بالزحف على بلاد فارس ليدك ما فيها من معالم الحضارة ثم يوالي حفيده هولاكو زحفه نحو العراق ليدمر بغداد عاصمة الخلافة العباسية ذاتها ويقتل من أهلها ما لا يقل عن مليون مسلم في سلسلة من أسوء الكوارث التي تعرض لها المسلمون في مجمل تاريخهم، ولكن فروسية المماليك الأول ساعدتهم على توحيد مصر والشام والحجاز واليمن والسودان في دولة واحدة عاصمتها القاهرة، وقام ملوكها الأول العظام مثل قطز وبيبرس وقلاوون وابنه الأشرف بأعمال بطولية فذة، كان أهمها هزيمة التتار في عين جالوت ثم تحرير الإمارات الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال الصليبي لتنتهي بذلك حقبتان مظلمتان من تاريخ الشرق العربي.
وعلى الرغم من القوة التي ظهرت على المسلمين في فترة حكم المماليك، فإنَّ ذلك لم يكن كافيًا فيما يبدو لمسلمي آسيا الصغرى الذين سارعوا بتأسيس دولة قوية أخرى هي الدولة العثمانية، أما مسلمي فارس فقد أسسوا الدولة الصفوية، وظهرت دول أخرى في شمال إفريقيا والأندلس وإفريقيا الشرقية والوسطى والغربية، ودول إسلامية مترامية الأطراف في الهند وتركستان، وبدا أن المسلمين في ذلك الوقت قد سيطروا على ثلثي العالم، وهي مساحة من الأرض لم تسيطر عليها الإمبراطورية الرومانية في عنفوان شبابها.
ولم يكن ذلك حقيقة نتيجة الغزو بقدر ما شاهده الناس في كل مكان في العقيدة الإسلامية من سماحة وصفاء وتسامح، فها هم التتار مثلًا الذين حاولوا إفناء المسلمين يتحولون هم أنفسهم بدون قتال إلى الإسلام الحنيف، وها هم سكان أفريقيا عاشوا في قبال بدائية معزولة عن قبس الحضارة أمدًا طويلًا يدخلون الإسلام بعد اختلاطهم وتعاملهم مع قوافل التجار المسلمين.
ولم يكن قيام الدولة العثمانية القوية في آسيا الصغرى والقريبة من أوروبا إلا تهديدًا خطيرًا للأوروبيين الذين سارعوا بالهجوم عليها بهدف هدمها وزوالها، ولكن العثمانيين صمدوا ودافعوا عن دينهم وبلادهم، بل وقاموا برد العدوان وعبور مضيق الدردنيل إلى أوروبا ليبدأوا سلسلة متصلة من الفتوحات في قلب أوروبا وصلت بسرعة إلى مشارف المجر والنمسا، وذلك بعد أن تمكنوا من اقتحام جوهرة المدن الأوروبية وهي القسطنطينية وتدمير الإمبراطورية البيزنطية التي ارتجت لزوالها القارة بأسرها، وبعد تلك الانتصارات المبهرة توقف العثمانيون ونظروا إلى الخلف، فبدلًا من إكمال فتوحاتهم في أوروبا نراهم يتراجعون، ويوجهون كل جهدهم لهزيمة دولة المماليك الثانية وهزيمة الدولة الصفوية في فارس.
وبينما كانت الدول الإسلامية الكبرى تتصارع على سيادة العالم الإسلامي، إذ بالمسلمين في غرناطة (آخر ولايات الاندلس الإسلامية) يلقون الهزيمة النهائية على يد الإسبان، وتحول أعظم مساجدهم إلى كنائس كاثوليكية، ويتم إجبارهم على مغادرتها إلى شمال إفريقيا، ثم يمنعون من مغادرتها فيما بعد ليجبروا على التنصر قسرًا أو مواجهة الإعدام حرقًا في غرف محاكم التفتيش.
ولقد أدى سقوط غرناطة إلى حصول البرتغاليين والإسبان على كنوز المعارف والعلوم الإسلامية بما في ذلك الخرائط الملاحية، ولهذا فلا عجب أن يتمكن فاسكو دي جاما من إعلان أنه استكشف المحيط الهندي و(بينما العرب كانوا يعلمونه شبرًا شبرًا) عن طريق أفريقيا الغربية مما مكن البرتغاليين من احتلال جزر استراتيجية هناك وتدمير دولة ماليندي الإسلامية بشرق أفريقيا، ثم عندما يتصدى لهم السلطان المملوكي الغوري نراهم يتمكنون من تدمير بحريته في موقعة ديو البحرية ليعلنوا للعالم زوال الأمجاد الإسلامية ويفتتحوا بذلك عصر الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي.
لم يحاول العثمانيون التراجع عن نواياهم تجاه دولة المماليك، بل استمروا يترقبون الفرصة السانحة إلى أن أُتيحت لهم، فهزموا جيوش المماليك في مرج دابق عند حلب واحتلوا الشام والعراق، ثم زحفوا على مصر ليهزموهم مرة أخرى في الريدانية ويقتحموا القاهرة.
لقد دخل إذن العثمانيون العالم العربي منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي وتركوا الفتوحات في أوروبا، فاستغلها الأوروبيون فرصة وأخذوا يكيلون الهزائم للأتراك العثمانيين تباعًا إلى أن تمكنوا من يسط نفوذهم على مجمل دول العالم الإسلامي إلا قليلًا، ولما شعروا أنَّ المسلمين فقدوا كل قدرة على تجديد أنفسهم وإحياء نهضتهم قاموا بزرع الكيان الصهيوني في فلسطين بذلك العصر الصليبي العنصري البغيض في العصور الوسطى، ولكي يضمنوا إلى أجل غير محدد من السنين استمرار ضعف العرب وتخلفهم.
استيقظ المسلمون في العالم الإسلامي أواخر القرن الرابع عشر الهجري (منتصف القرن العشرين الميلادي تقريبًا) فجأة بواسطة حركات الاستقلال الوطنية التي سبقت وأعقبت الحرب العالمية الثانية ليجدوا أنفسهم دولاً شتى، مما انعكس بدوره على الاتجاه العام للعالم الإسلامي الذي شعر بالحزن العميق والألم القاسي بمدى ما انحدرت إليه أحواله بعد طول عزة، بينما ينظر كل مسلم إلى أمجاد أجداده فلا يجني سوى الحسرة والانكسار.
ماذا تبقى إذن للمسلمين بعد كل تلك العصور سوى تاريخهم ودينهم؟ وهل يكون الإسلام الحنيف الهدف الأخير المتبقي للأعداء لكي يقضوا عليه، بينما لا يبدوا أن المؤمنين به يملكون سبل الدفاع عن أنفسهم؟
وإذا ما حاول الأعداء توحيد صفوفهم لتوجيه الضربة الكبرى، فهل تكفي حتى الشهادة من قبل المؤمنين لحماية الإسلام والذود عنه... أم آن الآوان للمسلمين أن يعترفوا بتقصيرهم، وأن يتذكروا تاريخهم، ويعودوا لمنابع الخير ويتمسكوا بقيم العلم والحرية والشورى ليتمكنوا من توجيه بلادهم إلى طريق الازدهار والرقي [1].
[1] منقول بتصرف من كتاب ألف حدث إسلامي لعبد الحكيم العفيفي، ص5- 11.
التعليقات
إرسال تعليقك